مزارع شبعا وترسيم الحدود.. صراع الجغرافيا والسياسة والأمن

تسعى المملكة العربية السعودية لترتيب العلاقات اللبنانية – السورية من باب الحدود البرية والسعي لترسيمها لأهداف تتعلق بالسياسة والأمن والإقتصاد أيضاً، وفي قلب البقعة الحدودية المتشابكة بين لبنان وسوريا، تبرز مزارع شبعا كأحد أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا في تاريخ النزاعات الإقليمية الحديثة، فرغم صغر مساحتها التي لا تتجاوز 25 كيلومترًا مربعًا، إلا أن هذه الأراضي تمثل عقدة جيوسياسية قائمة منذ عقود، تتقاطع فيها حسابات السيادة، الاحتلال، والمقاومة.
منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، تمسّك لبنان بمطلب استعادة مزارع شبعا باعتبارها أرضًا لبنانية محتلة، في حين تعتبرها الأمم المتحدة “أراضي سورية محتلة”، ما دام لم يُحسم أمر السيادة من خلال ترسيم نهائي للحدود بين لبنان وسوريا، وهذا ما تتمسك به “إسرائيل” لدى طرح البحث بالملف الحدودي بينها وبين لبنان.
تكمن المعضلة بنظر إسرائيل في غياب خرائط رسمية موثقة من الحكومة السورية تُثبت لبنانية هذه المنطقة، وبرغم تأكيد مسؤولين سوريين في فترات سابقة على لبنانية المزارع، إلا أن غياب الترسيم الرسمي بين لبنان وسوريا يُبقي الوضع في دائرة الالتباس السياسي والقانوني، وهو ما يُضعف موقف لبنان في المحافل الدولية عندما يُطالب بتحرير هذه الأراضي من الاحتلال الإسرائيلي.
ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا ليس مجرد عملية تقنية أو إدارية، بل قرار سياسي بامتياز. فحتى اللحظة، لم تجرِ أي عملية ترسيم جدية أو متكاملة للحدود البرية بين البلدين منذ استقلال لبنان، والسبب الرئيسي يعود إلى الاعتبارات السياسية التي تتعلق بالعلاقات المعقدة، وتقاطعات النفوذ الإقليمي في دمشق وبيروت على حد سواء، وهو ما قد يتغير اليوم بعد سقوط النظام السوري السابق بقيادة بشار الأسد ووصول إدارة جديدة للحكم في سوريا.
في السنوات الأخيرة، ومع عودة الحديث عن إعادة فتح ملفات السيادة والحدود في ضوء الانهيار الاقتصادي في لبنان، عاد ملف ترسيم الحدود إلى الواجهة، خاصة بعدما طالبت الأمم المتحدة في أكثر من مناسبة، من بينها القرار 1680 الصادر عام 2006، بضرورة الترسيم وإقامة علاقات دبلوماسية واضحة بين البلدين، ولكن بقي الأمر منسياً حتى الأمس القريب يوم اندلعت اشتباكات بين جيش الحكم السوري الجديد واللبنانيين من أبناء عشائر وجيش لبناني، فتدخلت المملكة العربية السعودية وجمعت بين وزيري الدفاع بالبلدين وشددت على ضرورة حسم الصراعات الحدودية وترسيم الحدود.
وخلال الساعات الماضية زار رئيس الحكومة نواف سلام دمشق ووجد إيجابية لدى الجانب السوري بترسيم الحدود البرية والبحرية، وبالتالي بحال استُكملت المساعي السعودية، وثبُتت النوايا السورية السليمة والإيجابية يمكن توقع حصول الترسيم قريباً، علماً أن البعض في لبنان وخارجه يعولون على الترسيم من اجل تثبيت “سورية” مزارع شبعا، ما يُنهي السبب الأساسي الذي جعل حزب الله يتمسك بسلاحه طوال الفترة الماضية على اعتبار أن هناك أراض لبنانية محتلة هي مزارع شبعا.
ولكن خلال الحديث عن الترسيم تحدث رئيس الجمهورية جوزيف عون عن مساعي فرنسية أيضاً تأتي في نفس السياق، مشيراً إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعد بتزويد لبنان بالأرشيف الفرنسي الذي يؤكد “لبنانية المزارع”، وهو ما قد يعرقل الترسيم بحسب مصادر سياسية متابعة.
ترى المصادر عبر “الملفات” أن إسرائيل لن يناسبها إطلاقاً ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا والتسليم بلبنانية المزارع، فهي تعتبر وجودها بالمزارع وامتدادها للأراضي السورية المحتلة من النقاط الإستراتيجية التي سيكون من الصعب للغاية التخلي عنها.
في بعض الأوساط اللبنانية كلام يؤكد أن الإدارة السورية الجديدة لن تتخلى عن مزارع شبعا بسهولة، ومن غير المعروف بعد كيف سيتعامل السوريون مع مسألة المزارع وما إذا كانوا سيتمسكون بها رغم تقديم لبنان ما يُثبت لبنانيتها، وبالتالي قد تستمر مسألة مزارع شبعا من المسائل العالقة نظراً لارتباطها بما هو اكبر من لبنان وسوريا والعلاقة بينهما.
“في السابق كان هناك شعور لدى البعض أن الحزب، وعلى الرغم من دعوته لتثبيت لبنانية المزارع، لم يكن متحمسًا للدفع باتجاه الترسيم، لعلمه أن الحسم القانوني قد لا يصب في مصلحته السياسية أو الاستراتيجية، واليوم قد ينطبق هذا الأمر على السوريين من جهة أو الإسرائيليين من جهة ثانية”، تختم المصادر.
في الخلاصة إذا كان لبنان يسعى جديًا لتعزيز سيادته، وتحسين موقعه التفاوضي إقليميًا ودوليًا، فإن الترسيم الرسمي للحدود مع سوريا، وتحديد هوية مزارع شبعا، يجب أن يُدرجا على جدول أولويات الدولة، فالتعامل مع هذا الملف بمنطق التأجيل الدائم لن يُنتج إلا مزيدًا من الغموض، في وقت لم يعد فيه الغموض مجديًا في لعبة الأمم.
المصدر: خاص “الملفات” – الكاتب والمحلل السياسي محمد علوش