September 24, 2024

“١٣ مرة حاولت انتحر .. أنا شو ذنبي؟”

المصدر : موقع الملفات – خاص موقع الملفات – خاص “ذلّتني لدرجة ما بيقدر إنسان يتخايلها، ياما نمت ليالي عَ حفاف الطرقات أنا وعم إبكي، بطّلع بالسما وبسأل ربي أنا شو عامِل؟ أنا شو ذنبي؟ فهّمني! ليش من لما وعيت على هالدني عم اتخبط بهالحياة. ما في شي ما عملتو بحالي، حتى وصلت للانتحار من وراها، مش مرة واثنين، 13 مرة! وما حدا ردني عن هالطريق إلا مار شربل، إيه مار شربل”، يقول رامي!وُلد رامي في بلدٍ مليء بالخيباتِ، ويا ليته لم يولد، على حدّ تعبيره، كونه لا يعيش مثل سائر البشر إنما مثل الأشباح، من دون أيّ أثر يُذكر. رامي، شاب أربعينيّ، لبنانيّ، بالاسم فقط، يعيش ويتنفّس من قلّة الموت، حالهُ هذه لا تختلف كثيرًا عن حال آلاف الشباب اللبنانيين الذين يصارعون للاعتراف بلبنانيتهم والاستحصال على أوراق ثبوتية تحدّد انتماءهم. قضية رامي تُعتبر من القضايا الحساسة والمثيرة للجدل في البلاد، لا سيَّما أن الكلام عنها يُعدّ مضيعة للوقت نسبًة للبعض فيما يؤكد البعض الآخر أحقية مطالبهم مع علمهم باستحالة الوصول إلى مخرج أو حلّ جذري لمكتومي القيد في الوقت الراهن والفضل يعود للتجاذبات السياسية حول مسألتي التجنيس والتوطين. انتزع من جذورهلم يكن رامي، – اسم وهميّ احتراماً لرغبته – وحيدًا مرميًا على أرصفة الطرقات أو مقطوعًا من شجرة إلى أن شاء القدر، وبين ليلة وضحاها أن يصبح يتيم الأب والأم، ومنذ ذاك اليوم سؤال واحد لا يفارق ذهنه ليلاً نهارًا: “أنا شو ذنبي حدا يفهّمني، إذا بيي وامي تركوني وراحو عَ غير دني؟، شو ذنبي إذا هني فلو وما سجّلوني؟”. في السابعة من عمره، توفي والداه إبان الحرب كما قيل له، فبقي مع شقيقه وشقيقته في منزل جدته. بعد فترة وجيزة تم إرساله إلى إحدى المدارس الداخلية من قبل أحد رجال الدين الذي كان يتولى رعايتهم والاهتمام بهم، فيما أرسل البقية إلى إحدى المؤسسات التي تعتمدها وزارة الشؤون الاجتماعية، كونهم أصغر سنًا منه. فجأة، وجد نفسهُ في مدرسة داخلية وسط أناسٍ لا يعرفهم وعالمٍ غريب لا ينتمي إليه. شعر وكأنه انتزع فجأة من جذوره، وأن رحلته الشاقة مع الحياة والتي يرويها الأخير بتفاصيلها الموجعة لموقع “الملفات” بدأت للتو، لاسيما أن “رامي الصغير” يومها  كان لا يملك في جعبته إلا ورقة مختار تُعرّف عنه، فهو لم يولد في وثائق الدولة ولا ذِكر له في سجلات دوائر النفوس. دمي عكفّيما أن بلغ سن الرشد حتى انتقل إلى حياة ثانية، أجبر فيها على الالتحاق بأحد الأحزاب اللبنانية والسبب على حدّ قوله كان: “حملت دمي وروحي عكفّي سنين بس لحتى إقدر روح على الطريق وإجي من دون ما حدا يقلي، أنت وينك، شو إسمك؟ هويتك وين؟”. التحق من بعدها بمجموعة وخاض معهم أشرس المعارك وأخطرها غير آبهٍ بمصيره، لأنه يعلم علم اليقين أنّه إذا فارق الحياة لن يشعر أحد بموته، فهو لم يولد أصلاً ولا وجود له، ليس إلا مجهولاً يعيش حياة بائسة أمام مصير لا يعلم به إلا الخالق. انتهت الحرب العسكرية، لتبدأ حرب رامي مع مجتمع ٍيخشى أن يكتشف حقيقته، فإما أن ينبذه ويعايره أو يمارس محبة زائفة مليئة بالشفقة والنِفاق، ويذكّره في كل فرصة بماضيه، “خلصت الحرب من هون وبلش عذاب تاني من هونيك، ويا مَحلى الأول عَ تاني، صرت عتلان هم اضهر بين الناس، تعذبت كتير، وما كان الله ياخدني ويريحني، كنت شوف حاجز اهرب منو، ابعد عن المشاكل والزعرنات قد ما فيي، اذا عم تسألني ليش؟ أنا زلمة ما معي أوراق، لا فيي اشتغل متل العالم أو حب واتزوج وجيب ولاد عهالدنيا وبهدلن متلي، لا فيي امرض وفوت على المستشفى ولو معي مصاري بدن هوية، حتى ع مخفر ما فيي فوت اتشكى، ما معي الا شقفة ورقة من مختار ، يمكن كان لازم بلها واشرب ميتها من زمان”. لم يكتفِ القدر بغدره مرة!مرّت سنوات وهو يتخبّط، تارةً ينام على أحد جانبي رصيف شارع يلجأ إليه وطورًا بين ركام مبنى مهجور، إلى أن جمعته الصدفة بأحد المشاهير اللبنانيين الذي تحول إلى رفيق دربه ومنقذه وكاتم أسراره، تحديدًا سره الكبير فهو فقط من يعرف حقيقة رامي وقصته.تلك الفرحة لم تدم طويلاً فالقدر كما حرمه من عائلته وهويته، حرمه مرة أخرى من سنده الوحيد في الحياة ” كان خي، صديق، سند، حمايتي، بيي، هو كل حياتي، لإجا نهار من هالايام وراح لعند الله ما بعرف ليش الله اخدو، ما كان في غيرو واقف حدي يساعدني”.13 مرةدرجة اليأس والإحباط أوقعته في براثن الإدمان حتى أصبح يتعاطى المخدرات يوميًا بتشجيع زمرة من الأصدقاء “تعاطيت مخدرات 15 سنة، كل صنف يطلع قدامي جربو، كنت اتعاطى مش تانسى، لا لا تأوعى أكثر عَ حقيقتي، بتعرف شو يعني كل هالسنين وما حدا بيعرف انت مين؟، اذا أنا ومش متأكد اذا هيدا اسمي أصلاً ولا بعرف اذا مزبوط عمري هيك، كل يلي بعرفوا أنا بدي عيش، عم بطلب المستحيل؟”. الأمر لم يقف عند هذا الحد، فرامي حاول جاهدًا وضع حدّ لحياته، ” 13 مرة حاولت انتحر، 13 مرة وكل مرة كنت ارجع اوقف فيها ليش ما بعرف، مرة سقت سيارتي من جل الديب على جبيل بعكس السير لانتحر ومرة أخدت 40 حبة دواء وما متت، تاري الله ما بدو ياني، شو عرفني ليش تاركني على هالارض أو شو بدو مني”. حظ رامي الذي لم يبتسم له في السابق، ضحك له وأخيرًا، ولحسنه، تغير كل شيء بعد سنوات، ولم يقترب من أي نوع من المخدرات منذ ذلك الحين، لا بل عاد إلى الله وعن طريق القديس مار شربل الذي بات شفيعه منذ ذاك اليوم، كما يروي. في الماضي، كان رامي مستهترًا على حد تعبيره، غير آبه بما ستحمل له الأيام من مصائب أو رُبما مفاجآت، لا سيما أن شقيقه تمكن من الاستحصال على هوية لبنانية وأوراق ثبوتية بعد أن رفع دعوى قضائية على والديه المتوفين، كذلك الأمر بالنسبة لشقيقته فيما بقي هو الوحيد مجرّدًا من اي اسم أو جنسية كون حالته الاجتماعية والاقتصادية لا تخوله دفع تكاليف مثل هذه الدعاوى للحصول على أبسط حقوقه “ما عم لاقي حدا، دقيت أبواب كتير ما انفتحلي ولا باب، ما لقيت حدا يساعدني أو يوقف حدي”. وينهي شهادته الحية، بهذه الرسالة التي تبكي الحجر فكيف البشر: ” بشكر الله عكل شي، بس أنا أنسان موجوع، انا انسان ما عندي هوية، يعني انسان مجهول عايش بس بالغيم بغير كوكب، ما في وجود، أنا مجرد كذبة، شخص ماشي عَ هالطريق بس مين هو؟ أنا ما بعرف حالي.. ايام بصير اسأل حالي هيدا اسمي؟ مزبوط هيدا بيي وهاي امي هول اخواتي؟ صار في عندي خوف، والخوف الاكبر اذا صرلي شي وانا لحالي، رح موت صح بس رح ينفضح سري للعلن.. انا كل يلي بدي اطلبو، احفظ كرامتي،

حكاية لبناني.. دُفن وهو على قيد الحياة!

موقع الملفات – خاص “بتعرف شو يعني تعيش 40 سنة من حياتك وأنت إنسان مش موجود؟، عايش بس مدفون! طيب، أنا مين؟ أنا ضحية انقبرت هي وعم تتنفّس، ضحية إلها عمر عم تحارب لتكون إنسان، إنسان يا الله، ما بكفي 40 سنة ظلم؟ والله العظيم نشفوا دموعي، حتى الكلاب عندن هوية وأوراق ثبوتية، فكيف الحال بالبشر؟ إلا إذا نحنا مش بشر”، يقول يوسف أو أديب! يوسف حتى سنّ السابعة، وأديب إلى يومنا هذا، شاب أربعينيّ، لبنانيّ لا وجود له، مهمّش ومجهول الهوية، لا أوراق ثبوتية تحدّد انتماءه، وإن فارق الحياة لن يشعر أحد بموته، فهو لم يولد أصلاً. أديب، قد يرحل بين ليلة وضحاها من دون أن يُثبت مروره في الحياة‎، أقلهُ قانونياً باعتبار أنه مكتوم القيد، لا ذكر له في سجلات دوائر النفوس وبالتالي هو مجهول من الدولة. قضية أديب تُعتبر من القضايا الشائكة في البلد، فحاله كحال آلاف الأطفال اللبنانيين مكتومي القيد الذين حُرموا من هويّتهم من دون أي ذنب، ومن الحق بالحصول على اسم وجنسية، والأمر لا يقف هنا فالحرمان يشمل الطبابة، الضمان الاجتماعي، التعليم، العمل، التملّك، الانتخاب، الزواج أو حتى التنقّل بحرية، باختصار هم بشر لكن محرومين من كل حقوقهم التي نصّت عليها الاتفاقيات الدولية. “أهلك إجو” رُمي في منتصف الشارع وهو طفل رضيع، لم يتعدَّ الشهرين. صوت بكائه كان يعلو في الأرجاء وكأنّه يصرخ طالباً الرأفة والرحمة بحاله، إلى أن عثرت عليه عائلة سورية من سكان بيروت وقرّرت احتضانه حتى سنّ السابعة، مطلقةً عليه اسم “يوسف” – اسم وهميّ احتراماً لرغبته –، وبطبيعة الحال، نشأ في كنفها بدلاً من تسليمه إلى إحدى المؤسسات التي تعتمدها وزارة الشؤون الاجتماعية، وبالتالي بقي من دون أوراق ثبوتية أو حتى شهادة ميلاد وغيرها من الأوراق الرسمية. لعب الوضع المادي لهذه الأسرة دوراً كبيراً في حياته، فتدهور أوضاعهم المالية جعل منه عبئاً ثقيلاً على كاهلهم، إلى أن وصل إلى مسامعهم أن هناك عائلة لبنانية تبحث عن طفل لتبنّيه علّه يُنير عتمتهم ويُؤنس وحدتهم، وبعد جولات من الأخذ والرد بين الأسرتين، قيل ليوسف “أهلك إجو”، لتبدأ الحكاية من تلك اللحظة والتي يرويها الأخير بتفاصيلها الموجعة لموقع “الملفات”. “قالولي أهلك إجو، انبسطت، صدقت… انتقلت معن عبيتن ومن يوسف صار إسمي أديب، بس ما تهنيت، أكلت صدمة حياتي، وقت يلي عرفت فيه حقيقتي وقصتي أنا وعم بلعب مع ولاد الحيّ”، يروي الشاب بحرقة، ويتابع:”إيه، إيه ولاد من عمري خبروني أنو أنا مش ابن هالجماعة”. حدا يقلي، مين أنا؟ لا يتذكر مراحل طفولته المبكرة التي لم يجد إجابات شافية خلالها على تساؤلاته، فهل هو طفل مجهول النسب غير معروف الوالدين، أو هو غير شرعي ولد من رحم علاقة غير شرعية؟ أم أنه معلوم الأم ومجهول الأب؟ جُلّ ما يتذكّره من طفولته، أنها كانت صعبة وقاسية تعرّض خلالها للتنمّر والمضايقات والرفض من البعض وصولاً للاستغلال: “اتمنيت الموت، كنت اسأل حالي، ليش أهلي تركوني، ليش أنا؟ حدا يقلي مين أنا؟ ليش بدي اشتغل وأنا ولد عمري بينعد على الأصابع، كنت اشتغل 420 ساعة بالشهر، اتبهدلت كتير بس الحمدالله، وصلت لمطرح يستفيدوا من ورايي لأن ما معي أوراق ما يضمنوني ولا شي”، استمرت حالة النكران للواقع فترة زمنية إلى أن تقبّل الحقيقة “يمكن أنا لو ما جيت لهون ما بعرف شو كنت أو يمكن كنت عايش حياة تانية، في شي حطني عندن!”. وعن تجربته التعليمية، تمكّن أديب من استكمال دراسته حتى المرحلة الثانوية، إلا أنه ترك مقاعد الدراسة عند الوصول إلى صف الامتحانات الرسمية، وذلك لعدم حيازته أي أوراق ثبوتية، وبالتالي عدم أحقيته بالخضوع لها، “ما قدرت قدّم، رجاع يا صبي، ما معك هوية، وقفنا مدرسة وهي كانت “، يقول. أما عاطفياً، حاول الارتباط أكثر من مرة ولكن بطبيعة الحال لا يستطيع أن يمضي قدماً في علاقته، أو تسجيل زواجه في حال حصوله في الدوائر الرسمية لأنه بالنسبة لدائرة النفوس غير موجود في الأساس، “كل مرة كنت قول فيها يا خيي أنت لوين رايح؟ في مصيبة، أنا بدي جيب مصيبة لحالي أو للبنت شو بدي فيها، طيب شو بعمل؟ بعمل علاقة غير شرعية؟  هالكنية حقّي.. ويا ليتني ما شفتها! هذه العائلة، المؤلفة من أب”جورج” وأم “عبير” – أسماء مستعارة- احتضنت أديب بالرغم من معارضة الأقرباء والأصدقاء، أو أقلّه البعض ممن يرفضون فكرة تبنّيه رفضاً قاطعاً. تعاملوا معه حتى وفاتهم، كأنه ابنهم الحقيقي، من لحمهم ودمهم، وسط محاولات جاهدة لإنهاء معاملات التبنّي التي بدأوا بها منذ التسعينات ولا تزال عالقة حتى يومنا هذا. وفي هذا الصدد، يروي أديب كيف وقع ضحية مرة أخرى ولكن هذه المرة للواقع الفوضوي للتبني في لبنان والذي جعله عاجزاً عن لملمة تلك الجراحات التي أصيب بها طوال هذه السنوات، مؤكداً أن من حقّه الطبيعي أن يحمل كنية هذه العائلة “هيدا حق إذا ما باخدو بكون الظلم بحد ذاتو، هالكنية حقي ورح آخدها…”. تعرّفت العائلة على آليّة التبنّي في لبنان والإجراءات المطلوبة وبدأت بتنفيذها عبر إعداد ملف كامل تحقيقاً لشروط التبني، بدءًا من الاستحصال على الأحكام من المحكمتين الروحية والمدنية، مروراً بالعدلية وانتهاءً بالداخلية التي رفضت أحكام الجهة المتبناة لعدم توافر الشروط التي يتطلبها القانون، لاسيما تلك التي تتعلّق بموافقة الوالدين أو الاكتفاء بقبول أحدهما بالتنازل عن الطفل والامتناع عن المطالبة به لاحقاً. هذا الأمر استدعى الغوص والبحث في خبايا حكاية أديب بغية الوصول إلى والدته الأصلية والاستحصال منها على تنازل، ممّا يخولهم إنهاء معاملات التبنّي. وبعد مساعدة من السيدة الأولى التي ربّته (المرأة السورية)، توصّلوا إلى أمه البيولوجية، الأم التي تخلّت عنه بمحض إرادتها ورمته رضيعاً بحسب قوله وباتت معروفة، فيما الأب لا يزال مجهولاً. وبعد أسبوع تمكّن من مواجهتها، “ويا ليتني ما شفتها، بس مجبور”، يقول. ويضيف:” بتقلي الست أنو ظروفها بهيديك الفترة جبرتها تعمل هيك وتتخلّى عني، للصراحة، آخر همي هيي بدي ياها تتنازل لأخلص”. صفعة أخرى تلقاها أديب من أمه الحقيقية، الظالمة الأولى في حياته، كما يصفها، والتي لم تكتف بما فعلته بل حاولت استغلاله مادياً بعد مرور كل هذه السنوات، ويروي:”هي كانت غايتها مصلحة من بعد كل هالسنين، بدل ما تعترف بغلطها وجهلها لأنها اختارت المجتمع وكبتني إلي، صار بدها تستفيد مني مادياً، قال شو قال، تركن، تعا عيش عندي بتعيشني وبتهتم فيي… بدها اترك يلي ربّوني وكبروني وخلوني أعرف شو يعني أم وبي وروح عند يلي كبتني عالطريق”. وبحسب رواية أديب، وافقت الأم البيولوجية على التنازل عنه لصالح تلك العائلة، فظنّوا للوهلة الأولى أن قضيتهم قد حُلّت، إلّا أن الملف بقي حبيس الأدراج لسنوات، ولا جديد فيه إلا الأحكام الروحية التي تم تجديدها منذ ثلاث سنوات. هوية مزوّرة أو لجوء سياسي إزاء هذا الواقع المرير، وجد نفسه