September 24, 2024
\

حكاية لبناني.. دُفن وهو على قيد الحياة!

موقع الملفات – خاص

“بتعرف شو يعني تعيش 40 سنة من حياتك وأنت إنسان مش موجود؟، عايش بس مدفون! طيب، أنا مين؟ أنا ضحية انقبرت هي وعم تتنفّس، ضحية إلها عمر عم تحارب لتكون إنسان، إنسان يا الله، ما بكفي 40 سنة ظلم؟ والله العظيم نشفوا دموعي، حتى الكلاب عندن هوية وأوراق ثبوتية، فكيف الحال بالبشر؟ إلا إذا نحنا مش بشر”، يقول يوسف أو أديب!

يوسف حتى سنّ السابعة، وأديب إلى يومنا هذا، شاب أربعينيّ، لبنانيّ لا وجود له، مهمّش ومجهول الهوية، لا أوراق ثبوتية تحدّد انتماءه، وإن فارق الحياة لن يشعر أحد بموته، فهو لم يولد أصلاً. أديب، قد يرحل بين ليلة وضحاها من دون أن يُثبت مروره في الحياة‎، أقلهُ قانونياً باعتبار أنه مكتوم القيد، لا ذكر له في سجلات دوائر النفوس وبالتالي هو مجهول من الدولة.

قضية أديب تُعتبر من القضايا الشائكة في البلد، فحاله كحال آلاف الأطفال اللبنانيين مكتومي القيد الذين حُرموا من هويّتهم من دون أي ذنب، ومن الحق بالحصول على اسم وجنسية، والأمر لا يقف هنا فالحرمان يشمل الطبابة، الضمان الاجتماعي، التعليم، العمل، التملّك، الانتخاب، الزواج أو حتى التنقّل بحرية، باختصار هم بشر لكن محرومين من كل حقوقهم التي نصّت عليها الاتفاقيات الدولية.

“أهلك إجو”

رُمي في منتصف الشارع وهو طفل رضيع، لم يتعدَّ الشهرين. صوت بكائه كان يعلو في الأرجاء وكأنّه يصرخ طالباً الرأفة والرحمة بحاله، إلى أن عثرت عليه عائلة سورية من سكان بيروت وقرّرت احتضانه حتى سنّ السابعة، مطلقةً عليه اسم “يوسف” – اسم وهميّ احتراماً لرغبته –، وبطبيعة الحال، نشأ في كنفها بدلاً من تسليمه إلى إحدى المؤسسات التي تعتمدها وزارة الشؤون الاجتماعية، وبالتالي بقي من دون أوراق ثبوتية أو حتى شهادة ميلاد وغيرها من الأوراق الرسمية.

لعب الوضع المادي لهذه الأسرة دوراً كبيراً في حياته، فتدهور أوضاعهم المالية جعل منه عبئاً ثقيلاً على كاهلهم، إلى أن وصل إلى مسامعهم أن هناك عائلة لبنانية تبحث عن طفل لتبنّيه علّه يُنير عتمتهم ويُؤنس وحدتهم، وبعد جولات من الأخذ والرد بين الأسرتين، قيل ليوسف “أهلك إجو”، لتبدأ الحكاية من تلك اللحظة والتي يرويها الأخير بتفاصيلها الموجعة لموقع “الملفات”.

“قالولي أهلك إجو، انبسطت، صدقت… انتقلت معن عبيتن ومن يوسف صار إسمي أديب، بس ما تهنيت، أكلت صدمة حياتي، وقت يلي عرفت فيه حقيقتي وقصتي أنا وعم بلعب مع ولاد الحيّ”، يروي الشاب بحرقة، ويتابع:”إيه، إيه ولاد من عمري خبروني أنو أنا مش ابن هالجماعة”.

حدا يقلي، مين أنا؟

لا يتذكر مراحل طفولته المبكرة التي لم يجد إجابات شافية خلالها على تساؤلاته، فهل هو طفل مجهول النسب غير معروف الوالدين، أو هو غير شرعي ولد من رحم علاقة غير شرعية؟ أم أنه معلوم الأم ومجهول الأب؟ جُلّ ما يتذكّره من طفولته، أنها كانت صعبة وقاسية تعرّض خلالها للتنمّر والمضايقات والرفض من البعض وصولاً للاستغلال: “اتمنيت الموت، كنت اسأل حالي، ليش أهلي تركوني، ليش أنا؟ حدا يقلي مين أنا؟ ليش بدي اشتغل وأنا ولد عمري بينعد على الأصابع، كنت اشتغل 420 ساعة بالشهر، اتبهدلت كتير بس الحمدالله، وصلت لمطرح يستفيدوا من ورايي لأن ما معي أوراق ما يضمنوني ولا شي”، استمرت حالة النكران للواقع فترة زمنية إلى أن تقبّل الحقيقة “يمكن أنا لو ما جيت لهون ما بعرف شو كنت أو يمكن كنت عايش حياة تانية، في شي حطني عندن!”.

وعن تجربته التعليمية، تمكّن أديب من استكمال دراسته حتى المرحلة الثانوية، إلا أنه ترك مقاعد الدراسة عند الوصول إلى صف الامتحانات الرسمية، وذلك لعدم حيازته أي أوراق ثبوتية، وبالتالي عدم أحقيته بالخضوع لها، “ما قدرت قدّم، رجاع يا صبي، ما معك هوية، وقفنا مدرسة وهي كانت “، يقول.

أما عاطفياً، حاول الارتباط أكثر من مرة ولكن بطبيعة الحال لا يستطيع أن يمضي قدماً في علاقته، أو تسجيل زواجه في حال حصوله في الدوائر الرسمية لأنه بالنسبة لدائرة النفوس غير موجود في الأساس، “كل مرة كنت قول فيها يا خيي أنت لوين رايح؟ في مصيبة، أنا بدي جيب مصيبة لحالي أو للبنت شو بدي فيها، طيب شو بعمل؟ بعمل علاقة غير شرعية؟ 

هالكنية حقّي.. ويا ليتني ما شفتها!

هذه العائلة، المؤلفة من أب”جورج” وأم “عبير” – أسماء مستعارة- احتضنت أديب بالرغم من معارضة الأقرباء والأصدقاء، أو أقلّه البعض ممن يرفضون فكرة تبنّيه رفضاً قاطعاً. تعاملوا معه حتى وفاتهم، كأنه ابنهم الحقيقي، من لحمهم ودمهم، وسط محاولات جاهدة لإنهاء معاملات التبنّي التي بدأوا بها منذ التسعينات ولا تزال عالقة حتى يومنا هذا.

وفي هذا الصدد، يروي أديب كيف وقع ضحية مرة أخرى ولكن هذه المرة للواقع الفوضوي للتبني في لبنان والذي جعله عاجزاً عن لملمة تلك الجراحات التي أصيب بها طوال هذه السنوات، مؤكداً أن من حقّه الطبيعي أن يحمل كنية هذه العائلة “هيدا حق إذا ما باخدو بكون الظلم بحد ذاتو، هالكنية حقي ورح آخدها…”.

تعرّفت العائلة على آليّة التبنّي في لبنان والإجراءات المطلوبة وبدأت بتنفيذها عبر إعداد ملف كامل تحقيقاً لشروط التبني، بدءًا من الاستحصال على الأحكام من المحكمتين الروحية والمدنية، مروراً بالعدلية وانتهاءً بالداخلية التي رفضت أحكام الجهة المتبناة لعدم توافر الشروط التي يتطلبها القانون، لاسيما تلك التي تتعلّق بموافقة الوالدين أو الاكتفاء بقبول أحدهما بالتنازل عن الطفل والامتناع عن المطالبة به لاحقاً.

هذا الأمر استدعى الغوص والبحث في خبايا حكاية أديب بغية الوصول إلى والدته الأصلية والاستحصال منها على تنازل، ممّا يخولهم إنهاء معاملات التبنّي. وبعد مساعدة من السيدة الأولى التي ربّته (المرأة السورية)، توصّلوا إلى أمه البيولوجية، الأم التي تخلّت عنه بمحض إرادتها ورمته رضيعاً بحسب قوله وباتت معروفة، فيما الأب لا يزال مجهولاً. وبعد أسبوع تمكّن من مواجهتها، “ويا ليتني ما شفتها، بس مجبور”، يقول. ويضيف:” بتقلي الست أنو ظروفها بهيديك الفترة جبرتها تعمل هيك وتتخلّى عني، للصراحة، آخر همي هيي بدي ياها تتنازل لأخلص”.

صفعة أخرى تلقاها أديب من أمه الحقيقية، الظالمة الأولى في حياته، كما يصفها، والتي لم تكتف بما فعلته بل حاولت استغلاله مادياً بعد مرور كل هذه السنوات، ويروي:”هي كانت غايتها مصلحة من بعد كل هالسنين، بدل ما تعترف بغلطها وجهلها لأنها اختارت المجتمع وكبتني إلي، صار بدها تستفيد مني مادياً، قال شو قال، تركن، تعا عيش عندي بتعيشني وبتهتم فيي… بدها اترك يلي ربّوني وكبروني وخلوني أعرف شو يعني أم وبي وروح عند يلي كبتني عالطريق”.

وبحسب رواية أديب، وافقت الأم البيولوجية على التنازل عنه لصالح تلك العائلة، فظنّوا للوهلة الأولى أن قضيتهم قد حُلّت، إلّا أن الملف بقي حبيس الأدراج لسنوات، ولا جديد فيه إلا الأحكام الروحية التي تم تجديدها منذ ثلاث سنوات.

هوية مزوّرة أو لجوء سياسي

إزاء هذا الواقع المرير، وجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يلجأ إلى مسار غير قانوني وإما أن يدقّ أبواب المسؤولين. فالخيار الأول، بحسب روايته التي ننقلها كما جاءت على لسانه وكما هي من دون زيادة أو نقصان أو حتى تبنّي ما جاء فيها، يتضمن عرضاً تلقًاه من قبل جهة مجهولة – فضّل عدم الكشف عنها خوفاً من تداعيات ذلك – للدخول إلى الأراضي السورية والاستحصال على بطاقة هوية لشخص متوفي مقابل مبلغ مادي معين. مهلاً، ولكن كيف؟ كالآتي: “انعرض عليي فوت على سوريا وإرجع، بقوموا الميت وبعيشوه، بيعطوني هوية لبنانية أو سورية، يعني، واحد مات بسوريا، بفوت أنا باخد هويتو وبطلع بعيش باسمو”.

هذا الخيار قوبل بالرفض الشديد من أديب، معتبراً أن الخيار الثاني أهون الشرّين مهما كانت نتائجه، وبالفعل لجأ إلى أحد سياسيي منطقته، دقّ بابه طالباً المساعدة فوعده ونفّذ، وبفضله تمكّن من الاستحصال على “جواز مرور” صادر عن المديرية العامة للأمن العام وسجل عدلي. أديب يرى أن ما حصل معه أشبه بطوق النجاة، وليس إلا الخطوة الأولى في مرحلة حصوله على الجنسية اللبنانية، على الهوية، على حقه، يليها كنية العائلة التي أرادت تبنّيه، كما وعده السياسي، على حد قوله.

ويروي أديب الذي يفتقد لهوية تُثبت وجوده قانونياً ما حصل معه، “ما كان معي ورقة بإيدي، ما معي شي، بظرف 10 أيام صار معي باسبور، صح ما بيحمل شهرة، أو رقم سجل ومكتوب عليه غير لبناني، بس على القليلة صار فيي اتنقل، فيي اتجوز، بس الولد يلي بدو يجي ما عندي اسم حتى سجّلو عليه”.

ويختم حديثه قائلاً: “الوجع محفور حفر، ما بسهولة أو بشخطة قلم بروح، بدو سنين وسنين ليطيب، اليوم ومن بعد 40 سنة صار معي شي يقول أنا مين! وهلق أنا موعود بهويتي، بالحلال أو بالحرام بدها تجي، رح كفي للآخر لحد ما الله ياخد أمانتو”.

حكاية أديب تلك التي سردها والدموع تنهمر من عينيه، تُؤكد أنه مكتوم الحياة قبل القيد، فهو مجرد إنسان معلّق بحبال الهوى منذ 40 عاماً، يبحث عن أمل وإن كان ضئيلاً لتخفيف معاناته، حاله كحال كثر ممّن يعانون من المشكلة عينها في ظل غياب أي حلّ لقضيتهم بسبب تجاذبات سياسية من هنا وحسابات طائفية من هناك. فيا ترى أيّ مصير سيواجه أديب؟ هل سيستمرّ بحربه لنيل حقه بعد الخيبات المتتالية أم أنه سيستسلم ويقول حينها: سلامٌ على هوية ودولة تتنكّر لأبنهائها وتحرمهم حتى من الاعتراف بموتهم.

المصدر : موقع الملفات – خاص