December 23, 2024

“١٣ مرة حاولت انتحر .. أنا شو ذنبي؟”

المصدر : موقع الملفات – خاص

موقع الملفات – خاص
 
“ذلّتني لدرجة ما بيقدر إنسان يتخايلها، ياما نمت ليالي عَ حفاف الطرقات أنا وعم إبكي، بطّلع بالسما وبسأل ربي أنا شو عامِل؟ أنا شو ذنبي؟ فهّمني! ليش من لما وعيت على هالدني عم اتخبط بهالحياة. ما في شي ما عملتو بحالي، حتى وصلت للانتحار من وراها، مش مرة واثنين، 13 مرة! وما حدا ردني عن هالطريق إلا مار شربل، إيه مار شربل”، يقول رامي!
وُلد رامي في بلدٍ مليء بالخيباتِ، ويا ليته لم يولد، على حدّ تعبيره، كونه لا يعيش مثل سائر البشر إنما مثل الأشباح، من دون أيّ أثر يُذكر. 
رامي، شاب أربعينيّ، لبنانيّ، بالاسم فقط، يعيش ويتنفّس من قلّة الموت، حالهُ هذه لا تختلف كثيرًا عن حال آلاف الشباب اللبنانيين الذين يصارعون للاعتراف بلبنانيتهم والاستحصال على أوراق ثبوتية تحدّد انتماءهم.
 
قضية رامي تُعتبر من القضايا الحساسة والمثيرة للجدل في البلاد، لا سيَّما أن الكلام عنها يُعدّ مضيعة للوقت نسبًة للبعض فيما يؤكد البعض الآخر أحقية مطالبهم مع علمهم باستحالة الوصول إلى مخرج أو حلّ جذري لمكتومي القيد في الوقت الراهن والفضل يعود للتجاذبات السياسية حول مسألتي التجنيس والتوطين.
 
انتزع من جذوره
لم يكن رامي، – اسم وهميّ احتراماً لرغبته – وحيدًا مرميًا على أرصفة الطرقات أو مقطوعًا من شجرة إلى أن شاء القدر، وبين ليلة وضحاها أن يصبح يتيم الأب والأم، ومنذ ذاك اليوم سؤال واحد لا يفارق ذهنه ليلاً نهارًا: “أنا شو ذنبي حدا يفهّمني، إذا بيي وامي تركوني وراحو عَ غير دني؟، شو ذنبي إذا هني فلو وما سجّلوني؟”.
 
في السابعة من عمره، توفي والداه إبان الحرب كما قيل له، فبقي مع شقيقه وشقيقته في منزل جدته. بعد فترة وجيزة تم إرساله إلى إحدى المدارس الداخلية من قبل أحد رجال الدين الذي كان يتولى رعايتهم والاهتمام بهم، فيما أرسل البقية إلى إحدى المؤسسات التي تعتمدها وزارة الشؤون الاجتماعية، كونهم أصغر سنًا منه.
 
فجأة، وجد نفسهُ في مدرسة داخلية وسط أناسٍ لا يعرفهم وعالمٍ غريب لا ينتمي إليه. شعر وكأنه انتزع فجأة من جذوره، وأن رحلته الشاقة مع الحياة والتي يرويها الأخير بتفاصيلها الموجعة لموقع “الملفات” بدأت للتو، لاسيما أن “رامي الصغير” يومها  كان لا يملك في جعبته إلا ورقة مختار تُعرّف عنه، فهو لم يولد في وثائق الدولة ولا ذِكر له في سجلات دوائر النفوس.
 
دمي عكفّي
ما أن بلغ سن الرشد حتى انتقل إلى حياة ثانية، أجبر فيها على الالتحاق بأحد الأحزاب اللبنانية والسبب على حدّ قوله كان: “حملت دمي وروحي عكفّي سنين بس لحتى إقدر روح على الطريق وإجي من دون ما حدا يقلي، أنت وينك، شو إسمك؟ هويتك وين؟”. 
التحق من بعدها بمجموعة وخاض معهم أشرس المعارك وأخطرها غير آبهٍ بمصيره، لأنه يعلم علم اليقين أنّه إذا فارق الحياة لن يشعر أحد بموته، فهو لم يولد أصلاً ولا وجود له، ليس إلا مجهولاً يعيش حياة بائسة أمام مصير لا يعلم به إلا الخالق.
 
انتهت الحرب العسكرية، لتبدأ حرب رامي مع مجتمع ٍيخشى أن يكتشف حقيقته، فإما أن ينبذه ويعايره أو يمارس محبة زائفة مليئة بالشفقة والنِفاق، ويذكّره في كل فرصة بماضيه، “خلصت الحرب من هون وبلش عذاب تاني من هونيك، ويا مَحلى الأول عَ تاني، صرت عتلان هم اضهر بين الناس، تعذبت كتير، وما كان الله ياخدني ويريحني، كنت شوف حاجز اهرب منو، ابعد عن المشاكل والزعرنات قد ما فيي، اذا عم تسألني ليش؟ أنا زلمة ما معي أوراق، لا فيي اشتغل متل العالم أو حب واتزوج وجيب ولاد عهالدنيا وبهدلن متلي، لا فيي امرض وفوت على المستشفى ولو معي مصاري بدن هوية، حتى ع مخفر ما فيي فوت اتشكى، ما معي الا شقفة ورقة من مختار ، يمكن كان لازم بلها واشرب ميتها من زمان”.
 
لم يكتفِ القدر بغدره مرة!
مرّت سنوات وهو يتخبّط، تارةً ينام على أحد جانبي رصيف شارع يلجأ إليه وطورًا بين ركام مبنى مهجور، إلى أن جمعته الصدفة بأحد المشاهير اللبنانيين الذي تحول إلى رفيق دربه ومنقذه وكاتم أسراره، تحديدًا سره الكبير فهو فقط من يعرف حقيقة رامي وقصته.
تلك الفرحة لم تدم طويلاً فالقدر كما حرمه من عائلته وهويته، حرمه مرة أخرى من سنده الوحيد في الحياة ” كان خي، صديق، سند، حمايتي، بيي، هو كل حياتي، لإجا نهار من هالايام وراح لعند الله ما بعرف ليش الله اخدو، ما كان في غيرو واقف حدي يساعدني”.
13 مرة
درجة اليأس والإحباط أوقعته في براثن الإدمان حتى أصبح يتعاطى المخدرات يوميًا بتشجيع زمرة من الأصدقاء “تعاطيت مخدرات 15 سنة، كل صنف يطلع قدامي جربو، كنت اتعاطى مش تانسى، لا لا تأوعى أكثر عَ حقيقتي، بتعرف شو يعني كل هالسنين وما حدا بيعرف انت مين؟، اذا أنا ومش متأكد اذا هيدا اسمي أصلاً ولا بعرف اذا مزبوط عمري هيك، كل يلي بعرفوا أنا بدي عيش، عم بطلب المستحيل؟”.
 
الأمر لم يقف عند هذا الحد، فرامي حاول جاهدًا وضع حدّ لحياته، ” 13 مرة حاولت انتحر، 13 مرة وكل مرة كنت ارجع اوقف فيها ليش ما بعرف، مرة سقت سيارتي من جل الديب على جبيل بعكس السير لانتحر ومرة أخدت 40 حبة دواء وما متت، تاري الله ما بدو ياني، شو عرفني ليش تاركني على هالارض أو شو بدو مني”.
 
حظ رامي الذي لم يبتسم له في السابق، ضحك له وأخيرًا، ولحسنه، تغير كل شيء بعد سنوات، ولم يقترب من أي نوع من المخدرات منذ ذلك الحين، لا بل عاد إلى الله وعن طريق القديس مار شربل الذي بات شفيعه منذ ذاك اليوم، كما يروي.
 
في الماضي، كان رامي مستهترًا على حد تعبيره، غير آبه بما ستحمل له الأيام من مصائب أو رُبما مفاجآت، لا سيما أن شقيقه تمكن من الاستحصال على هوية لبنانية وأوراق ثبوتية بعد أن رفع دعوى قضائية على والديه المتوفين، كذلك الأمر بالنسبة لشقيقته فيما بقي هو الوحيد مجرّدًا من اي اسم أو جنسية كون حالته الاجتماعية والاقتصادية لا تخوله دفع تكاليف مثل هذه الدعاوى للحصول على أبسط حقوقه “ما عم لاقي حدا، دقيت أبواب كتير ما انفتحلي ولا باب، ما لقيت حدا يساعدني أو يوقف حدي”.

وينهي شهادته الحية، بهذه الرسالة التي تبكي الحجر فكيف البشر:

” بشكر الله عكل شي، بس أنا أنسان موجوع، انا انسان ما عندي هوية، يعني انسان مجهول عايش بس بالغيم بغير كوكب، ما في وجود، أنا مجرد كذبة، شخص ماشي عَ هالطريق بس مين هو؟ أنا ما بعرف حالي.. ايام بصير اسأل حالي هيدا اسمي؟ مزبوط هيدا بيي وهاي امي هول اخواتي؟ صار في عندي خوف، والخوف الاكبر اذا صرلي شي وانا لحالي، رح موت صح بس رح ينفضح سري للعلن..

انا كل يلي بدي اطلبو، احفظ كرامتي، الدولة مش عم تطلع فينا ولا حدا قارينا، بدي هويتي، حقي لا اكتر ولا أقل، ما بدي موت متل شي كلب على الطريق”.